التقنية العميقة ومستقبل التنمية المستدامة في السعودية
مقال ضيف بقلم محمد عبدالغفار، المدير العام لريادة الأعمال والمبادرات الاجتماعية في مجتمع جميل السعودية
يمتاز عصرنا الحالي بتطوراته التقنية المستمرة والمتعاقبة، ومن غير المستغرب أن التصور السائد لدى العديدين هو أن هذه الابتكارات وليدة اللحظة، وأنها اخترعت جميعاً في الماضي القريب. ولكن حقيقة الأمر هي أن مسيرة تطوّر المنتجات تحتاج إلى سنوات طويلة، بدءاً من الأفكار ومروراً بمرحلة النموذج الأولي وأخيراً مرحلة المنتج النهائي الملائم للمستخدم. ومن المنطقي أيضاً أنه كلما زاد تعقيد وحداثة التقنية أو المبادئ العلمية التي تُبنى عليها، كلما امتدت فترة البحث والتطوير والتجريب في المختبرات. وبناء على هذه المقدمة البسيطة، يجد المتأمل أن هنالك اختلافاً جوهرياً بين شركات التقنيات التقليدية وبين ما يُسمى بشركات التقنيات العميقة.
لتوضيح الفرق بين هذين النوعين من الشركات التقنية، يمكن نقول وببساطة أن شركات التقنية التقليدية تستخدم المبادئ الهندسية الراسخة والتقنيات السائدة والمعروفة بالفعل لابتكار منتجاتها، ما يجعل رحلة تطوير المنتجات قصيرة نسبياً. بينما تعمل شركات «التقنية العميقة» على تطوير منتجات تعتمد على تقنيات مُتقدمة جداً، والتي غالباً ما تكون في مراحل البحوث الأولية النظرية، مثل الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحيوية، والبيانات الضخمة، والحوسبة الكمومية، وتقنيات الفضاء، والمحفزات الكيميائية، الطاقة المتجددة، وغيرها، وذلك بهدف وضع أسس جديدة لمنتجات يمكنها إحداث تغييرات جذرية في صناعات بأكملها.
تشكل التقنية العميقة محركاً أساسياً في بناء اقتصادات المستقبل القائمة على المعرفة، حيث تساهم بشكل فعّال في زيادة الناتج المحلي الإجمالي وتحسين جودة الحياة. وهو ما لم تغفل عنه المملكة العربية السعودية، التي كثفت في السنوات الأخيرة جهودها في هذا المجال من خلال تشجيع عمليات الابتكار ودعم تتجير التقنية الجديدة والناشئة، وضخ الاستثمارات في البنية التحتية بمجال البحث والتعليم، وإعادة صياغة كامل التشريعات الخاصة بالقطاع، وتأسيس جهات حكومية خاصة لدعمه مثل هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، واطلاق سمو ولي العهد، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله، للاستراتيجيات الوطنية الطموحة، مثل الاستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية والأولويات الوطنية للبحث والتطوير والابتكار واستراتيجية جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية.
إن التقنية العميقة تعتمد بشكلٍ أساسي على عمليات البحث والتطوير والابتكار، وإن من المستهدفات الطموحة التي وضعتها المملكة في هذا المجال هو تخصيص 2.5% من إجمالي الناتج المحلي للإنفاق على القطاع بحلول عام 2040، وتنمية القطاع ليضيف 60 مليار ريال سعودي للاقتصاد الوطني، وتوفير 11 ألف وظيفة في مجال التقنية الحيوية بالتحديد، وأن تضيف 30 مليار ريال سعودي للناتج المحلي الإجمالي. ولهذا حددت المملكة أربع أولويات وطنية للبحث والتطوير والابتكار للعقدين المقبلين ترتكز على صحة الإنسان، واستدامة البيئة والاحتياجات الأساسية، والريادة في الطاقة والصناعة، واقتصاديات المستقبل، بما يتوافق مع التوجهات العالمية لتحقيق الازدهار والتنمية المُستدامة
مبادرات مشرفة وواعدة
إن التقنية العميقة ليست حكراً على الشركات الكبيرة، بل وتقدم فوائد وفرصاً هائلة لجميع الفاعلين في المجتمع. فعلى سبيل المثال، يمكن للشركات الناشئة الابتكار باستخدام تقنية البلوكشين لتسهيل العمليات المالية وتعزيز الشفافية. وفي المجال الزراعي، يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تدعم المزارعين على تحسين العمليات وزيادة الإنتاجية، مما يفتح آفاقًا جديدة لتحسين استدامة الإنتاج الزراعي. وبفضل الابتكارات الأخرى من التقنيات العميقة يمكن تحسين مجالات حيوية كثيرة مثل الرعاية الصحية، وإدارة الموارد، والأمن الغذائي، والمياه، والتصدي للتحدِّيات البيئية، وتحقيق التقدم في مجال التعليم. ولقد شهدنا مؤخراً تزايد المبادرات التمويلية في مجال التقنية العميقة، حيث أُطلقت هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكاربرامج جديدة لدعم المجال، مثل المنح البحثية للبحوث الأساسية والتطبيقية المعلن عنها مؤخراً. كما شهدنا كذلك تسارع جهود القطاعين الخاص لجذب المؤسسين وأصحاب المواهب والشركات الناشئة من جميع أنحاء العالم إلى المملكة، والتي يتم تنفيذها استناداً على استراتيجية المملكة لاستضافة المواهب العالمية، جنباً إلى جنب مع تعزيز القدرات المحلية من خلال المنصات المتخصصة.
في هذا السياق أعلنت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات في ديسمبر الماضي عن مبادرة «مهمة التقنيات العميقة»، من أجل تهيئة وتعزيز نظام بيئي يحتضن المواهب القادمة في حلول التقنيات العميقة، ولدعم 100 شركة في القطاع. في حين وقعت وزارة الاستثمار في مارس 2023 مذكرة تفاهم مع شركة «بيتا لاب»، وهو صندوق وإستوديو الشركات الناشئة في التقنيات العميقة، بهدف تحفيز الاستثمار والابتكار في الشركات الناشئة في التقنية العميقة. وفي مايو 2022، أطلقت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) برنامج «وجهة التقنية العميقة» لجذب المزيد من الشركات الناشئة الواعدة العاملة في مجال التقنيات العميقة، والتي تملك القدرة على تقديم حلول حالية ومستقبلية للقضايا الحرجة المتعلقة بالاستدامة والصحة. وعلاوة على ذلك، تعتزم مؤسسة مجتمع جميل السعودية أن تطلق مسابقة متخصصة في مجال التقنية العميقة في المستقبل المنظور
التقنية العميقة ورفاهية الغد
يعد الاستثمار في التقنية العميقة استثماراً مستداماً يمكن تطبيقه ضمن مجموعة واسعة من الصناعات، وعند دمج التقنية العميقة مع الابتكار، ستنشئ بيئة يمكن فيها للأفكار الرائدة الازدهار والتطور، بما يسهم في تحسين الخدمات وتطوير الصناعات. ولا بد لنا هنا أن نجدد الدعوة لمواصلة التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص والاستثمار في مجالات الابتكار، بهدف تعزيز التقدم الاقتصادي وتحقيق رؤية المملكة 2030. إذ أن التقنية العميقة هي محرك أساسي لتحقيق التقدم الاقتصادي وتعزيز رفاهية المجتمع. ولا شك بأن الابتكار والتقنية عاملين ممكنين لبناء مستقبل أفضل للجميع واقتصاد أكثر تنوعاً واستدامةً.