لماذا الإنترنت المظلم موجود؟ من قام بتطويره ويموله حتى الآن؟
بالنظر إلى طبيعة المحتوى الموجود اليوم على الإنترنت المظلم، قد يعتقد البعض أنه نتيجة عمل مجموعة من المبرمجين المعنيين بالخصوصية ويريدون الابتعاد عن أعين الرقابة الحكومية مثلاً، أو أن مؤسسة خارجة عن القانون هي من رعت الأمر وبالأخص مع كون الإنترنت المظلم هو المكان المفضل للنشاطات غير القانونية على الإنترنت اليوم. لكن الجواب الحقيقي مختلف تماماً عن ذلك، حيث أن الإنترنت المظلم بدأ كمشروع للحكومة الأمريكية في الواقع.
قد يبدو من الغريب أن تقوم جهة حكومية وبالأخص الحكومة الأمريكية بتطوير بروتوكول اتصال عالي الأمان والخصوصية في الواقع، حيث أن الإنترنت المظلم هو مكان موزع وغير مركزي، وبفضل استخدام تكنولوجيا التوجيه البصلي ضمنه فهو مصمم ليكون بعيداً عن أعين أي نوع من الرقابة. لكن ومع هذا الموضوع سنتناول سبب وجود الإنترنت المظلم أصلاً ولماذا يعد من المنطقي أن تنشئ الحكومة الأمريكية مشروعاً كهذا لا تستطيع التحكم به أو السيطرة عليه.
هذا الموضوع هو جزء من سلسلة من المقالات التي ستتناول الإنترنت المظلم بشكل مفصل، حيث سنبدأ من ماهيته وما الذي يميزه، وسنمر بمحتوياته وطريقة تصفحه وإن كان الأمر يستحق التجربة أصلاً. ويمكنك الوصول إلى المقالات الأخرى ضمن السلسلة من هذه الروابط:
- ما هو الإنترنت المظلم وبماذا يختلف عن الإنترنت العادي والإنترنت العميق
- ما هو مبدأ عمل الإنترنت المظلم ولماذا يحتاج إلى برمجيات مخصصة
كيف بدأ تطوير الإنترنت المظلم؟
طوال تاريخ الحوسبة أشارت مصطلحات الإنترنت المظلم إلى العديد من الشبكات المصغرة المحمولة عبر الإنترنت المعتاد لكنها معزولة عنه بشكل ما لتحقيق المزيد من الخصوصية. ومع أن العديد من الشبكات المختلفة يمكن أن توصف بكونها من الإنترنت المظلم، فأكبرها وأكثرها أهمية ربما هي شبكة Tor التي سنتناولها هنا.
أتت تسمية Tor أصلاً من عبارة The Onion Router التي تترجم إلى الموجه البصلي نسبة إلى طريقة إرسال البيانات عبر هذه الشبكة. حيث بدأ تطوير الشبكة من قبل موظفين في مخبر الأبحاث البحرية (NRL) التابع لوزارة الدفاع الأمريكية ومن ثم انتقل التطوير إلى وكالة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة (DARPA) قبل أن يتم إطلاق التقنية بشكل تجريبي عام 2002.
بدأ العمل على تطوير شبكة Tor منذ منتصف التسعينيات في الواقع، لكن الأمر احتاج سنوات من الأبحاث والتطوير وتجاوز عقبات التمويل ليتم الوصول إلى النسخة الجاهزة للإطلاق مطلع الألفية. وبعد إطلاق الكود المصدري للشبكة عام 2004 تم تأسيس منظمة “The Tor Project” المعنية بمتابعة تطوير وصيانة الشبكة بشكل مستمر.
اقرأ أيضاً: سوق العملات الرقمية يتجاوز ترليون دولار أمريكي من القيمة
لماذا قامت الحكومة الأمريكية بتطوير الإنترنت المظلم أصلاً؟
مع أن الشبكات المعنية بالخصوصية ليست أمراً محبذاً لدى الجهات الحكومية عادة، فقد كانت الغاية من تطوير الإنترنت المظلم هي جعله مجهول الاتصالات وموزعاً قدر الإمكان في الواقع، حيث أن الغاية من المشروع ككل هي توفير وسيلة آمنة للجهات الاستخباراتية الأمريكية للتواصل بشكل آمن تماماً عبر الإنترنت المعتاد.
بالطبع فهذه الغاية تبدو منطقية للغاية لتطوير وتمويل مشروع مثل شبكة Tor، لكن السؤال هنا هو سبب إطلاق الكود المصدري للشبكة وجعلها متاحة للجميع أصلاً، وهنا يمكن تبرير الأمر ببساطة: لا فائدة من شبكة خصوصية مصممة لحماية الجواسيس إن كان مستخدموها الوحيدون هم الجواسيس فقط، بل من الضروري وجود العديد من المستخدمين الآخرين من العامة بحيث لا يمكن استخدام الشبكة لكشف عناصر وشبكات الاستخبارات الأمريكية حول العالم.
في حال كانت شبكة Tor مستخدمة من قبل الجواسيس وعناصر الاستخبارات الأمريكية فقط، سيكون من السهل على أي من يعترض اتصالات الشبكة كشف هوية الجواسيس كون أطراف أي جزء من الاتصال سيكونون تابعين للاستخبارات الأمريكية بالضرورة. لكن ضمن شبكة فعالة ومتاحة للعامة يصبح كشف نشاط واتصالات الاستخبارات الأمريكية أمراً شبه مستحيل من حيث المبدأ.
اقرأ أيضاً: ما هو هروب رأس المال؟ وكيف تلعب العملات الرقمية دوراً كبيراً به؟
من يقوم بتمويل The Tor Project المعني بصيانة الإنترنت المظلم والاستمرار بتطويره؟
تتلقى منظمة The Tor Project الكثير من التمويل من مصادر متعددة اليوم، حيث أن هناك الكثير من التمويل من المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان وحرية التعبير مثلاً، كما أن هناك الكثير من التبرعات المباشرة من مستخدمين عاديين. لكن ومنذ البداية لطالما كانت الحكومة الامريكية عبر العديد من منظماتها وأفرعها التنفيذية الممول الأساسي للشبكة ككل.
المثير للاهتمام هو أن موقف الحكومة الأمريكية من شبكة Tor يبدو منقسماً للغاية في الواقع وعلى طرفين متناقضين تماماً، حيث تنادي الوكالات الاستخباراتية الأمريكية مثل NSA وسواها بإيقاف تمويل الشبكة وتحاول اختراقها ومراقبتها بشكل مستمر، لكن وبنفس الوقت تستمر الشبكة بالتطور وتلقي التحديثات اليوم بفضل التمويل القادم من أقسام أخرى من الحكومة الأمريكية أيضاً.
بالطبع فمنظور الحكومة الأمريكية إلى شبكة Tor ليس الوحيد المنقسم، حيث أن الكثيرين يرون تناقضاً في وجود الإنترنت المظلم ككل وإن كان تأثيره أمراً جيداً أم سيئاً. حيث أن هناك سلبيات عديدة بإتاحة شبكة ذات مجهولية عالية كونها قابلة للاستخدام من قبل المجرمين وحتى الإرهابيين لغايات خبيثة، لكن وفي نفس الوقت تمتلك الشبكة فوائد كبرى من حيث منع قيام المواقع بتعقب المستخدمين وجمع معلوماتهم، كما أنها منصة أساسية لضمان حرية الرأي ونشر المعلومات وبالأخص المعلومات السرية التي قد تعرض ناشريها للملاحقة القانونية أو التصرفات الانتقامية من بعض الجهات.