كيف ساهمت تقنيات الحرب العالمية الثانية في رسم معالم العالم التقني اليوم
على الرغم من أنها حقيقة مرة، لا يمكن إنكار أن الحروب وعلى الرغم من كل المآسي التي تجلبها معها من الممكن أن تتسبب بنتائج جانبية إيجابية عادة ما تتمحور حول الاختراعات الجديدة أو تطوير اختراعات موجودة سابقاً لتصبح قابلة للاستخدام على نطاق أوسع. ومن المعروف اليوم أن العديد من التقنيات التي نستخدمها لأغراض سليمة تماماً وغير مؤذية قد أتت من اختراعات صممت لتكون مؤذية جداً وحتى أدوات للقتل ربما.
بالطبع لا يمكن تبرير الحروب وتناسي الآلام الكبيرة التي تتسبب بها بمجرد النظر إلى المخلفات التقنية المفيدة التي تركتها، لكن يبقى من المهم تذكر هذه الإنجازات التقنية الكبرى، ومن المثير للاهتمام النظر إلى الابتكارات التي تمت قبل 8 عقود تقريباً وكيف أنها تمتلك تأثيراً حقيقياً على التقنيات المتقدمة التي نستخدمها اليوم.
في هذا المقال سننظر باتجاه الحرب العالمية الثانية كونها واحدة من أهم الأحداث التي شكلت عالمنا اليوم، فبالإضافة لكونها أكثر حرب مدمرة في التاريخ البشري على الإطلاق، فكونها قد تضمنت صراعاً عالمياً من قوى عظمى، فمن المنطقي أنها تضمنت بدورها الكثير من الابتكارات والتطويرات التقنية الهامة، وهنا سنستعرض بعضاَ من أهمها.
تقنية الرادار وتحديد مواقع الأجسام الطائرة عن بعد
كما العديد من الأمور الأخرى التي سنتناولها في هذا الموضوع، فتقنية الرادار أقدم من الحرب العالمية الثانية في الواقع، إذ تم استعراض التقنية للمرة الأولى عام 1935، لكنها بقيت دون استخدام حقيقي حتى أتت الحرب العالمية الثانية وأظهرت الفائدة الكبرى لهذه التقنية باكتشاف الطائرات المعادية وبالتالي تحديد مكان وموعد قدوم الطائرات المعادية للقصف والإنذار المبكر من الأمر.
نتيجة استخدام الرادار بشكل ناجح خلال الحرب، سرعان ما بات واحداً من أساسيات التكتيكات العسكرية الحديثة بعدها، لكن الأمر لم يتوقف عند المجال العسكري، بل سرعان ما انتقل الرادار إلى المجال المدني ليحصل على العديد من الاستخدامات الهامة.
اليوم بات الرادار مستخدماً على نطاق واسع في المطارات ليتيح الملاحة أفضل من أي وقت سابق، كما أنه يستخدم لرصد الجبال الجليدية في المياه القريبة من القطبين، بالإضافة لرصد الغيوم والتنبؤ بالطقس وربما الاستخدام الأكثر إزعاجاً للكثيرين: مراقبة الطرق وتحديد سرعة المركبات.
في الواقع وبالإضافات للاستخدامات الحالية للرادار فقد كان تطوير الرادار بحد ذاته خطوة هامة لتطوير الإلكترونيات عموماً، والكثير من التقنيات التي استخدمت لتطوير الرادار عادت لتثبت أهميتها في تطوير الحواسيب والأنظمة الإلكترونية عموماً.
فك التشفير واختراع الحواسيب الإلكترونية
خلال الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا النازية تمتلك ورقة رابحة هامة للغاية: آلة التشفير Enigma، حيث كانت الآلة قادرة على تشفير الرسائل بشكل فعال للغاية وصعب فك التشفير كون رمز التشفير المستخدم يتغير باستمرار، وبالنتيجة كان من الضروري إيجاد طريقة لفك تشفير رسائل النازيين بسرعة أكبر ليتم التعامل معها بسرعة أكبر.
تم اختبار العديد من الطرق التقليدية التي تتضمن عمل الكثير من خبراء التشفير على كسر التشفير كل يوم، لكن الوقت اللازم لفك التشفير كان طويلاً للغاية ومن الصعب التنبؤ به، وكان الجواب أخيراً هو واحداً من أهم الاختراعات في العصر الحديث على الإطلاق: الحاسوب. حيث قاد عالم الرياضيات البريطاني Alan Turing فريقاً قام بتصميم وإنشاء عدة حواسيب بدائية مصممة لفك التشفير الذي يستخدمه النازيون بشكل أسرع، وكان لإسهامه هذا دور كبير في انتصار الحلفاء في الحرب.
بالطبع فقد تم تطوير الحواسيب البدائية التي تم تصميمها خلال فترة الحرب ومع الوقت انتقلت الحواسيب لاستخدامات أخرى مدنية، ومن المعروف اليوم ما هي الأهمية العظمى التي تلعبها الحواسيب في حياتنا. فبقراءتك لهذا المقال أنت تستخدم جهازاً إلكترونياً هو من حيث المبدأ حاسوب في الواقع.
المحركات النفاثة وتغيير مجال الطيران بالكامل
من حيث المبدأ تعود فكرة المحركات النفاثة إلى مطلع الثلاثينيات في الواقع قبل بداية الحرب العالمية الثانية بسنوات، لكن أول تجارب الطيران باستخدامها تأخرت حتى بعد بداية الحرب. بالطبع فقد كانت المحركات النفاثة هامة جداً في الجهود الحربية حينها، فالطائرات النفاثة أسرع بمراحل من نظيرتها التي تستخدم المحركات التقليدية والمراوح، والسرعة هي عامل أساسي في المعارك الجوية دون شك.
لاحقاً وبعد نهاية الحرب استمر تطوير المحركات النفاثة، وبالوصول إلى نهاية الخمسينيات بدأت هذه المحركات بالظهور في الطائرات التجارية لتغير شكل الطيران للأبد وتحوله إلى الوضع الحالي مع رحلات أقصر وسرعات أكبر وحتى كمية اهتزازات وضجيج أقل ضمن المقصورة.
اقرأ أيضاً: هل الطائرات الكهربائية التجارية ممكنة حقاً؟
السفر إلى الفضاء
خلال الحرب العالمية الثانية عملت ألمانيا النازية بشكل مكثف على تطوير قدراتها على القصف بعيد المدى لتتمكن من استهداف المملكة المتحدة (كونها جزيرة يصعب غزوها) بشكل أكثر فعالية. حيث قادت الجهود النازية إلى تطوير الكثير من الأدوات الحربية لكن أهمها كان صاروخ V2 الذي يعد واحداً من أول الصواريخ بعيدة المدى في الواقع.
في الواقع كانت الأبحاث التي أجراها العلماء الألمان لتطوير صواريخ V2 هامة للغاية بحيث أن كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كانا يتسابقان على العثور على المزيد من الوثائق عنها وحتى جلب العلماء الألمان المطورين لها للعمل لديهم لتطوير صواريخ مشابهة.
مع أن غرض صواريخ V2 والعديد من الصواريخ المطورة منها كان عسكرياً بالدرجة الأولى ويهدف للدمار، فقد أثرت هذه الصواريخ بشكل هائل على استكشاف الفضاء، حيث أن الصواريخ التي قادت البشر إلى المدارات حول الأرض وأوصلتهم إلى القمر حتى مبنية بالأصل على تقنيات حربية بالدرجة الأولى.
اقرأ المزيد: صاروخ Straship سيكون الأولوية القصوى لشركة SpaceX منذ الآن
الطاقة النووية
مع نهاية الحرب العالمية الثانية شهد العالم حدثاً لم يسبق له الحدوث في التاريخ: قنبلة واحدة قادرة على تدمير مدينة بأكملها وقتل عشرات الآلاف دفعة واحدة. هذا الحدث هو قصف مدينة هيروشيما اليابانية بالقنبلة النووية، والذي عاد ليتكرر مرة أخرى بقصف مدينة ناغازاكي بعدها بأيام فقط.
في حينها أدى السلاح النووي إلى استسلام اليابان وإنهاء الحرب العالمية الثانية بشكل رسمي، لكن وعلى الرغم من الدمار الهائل الذي جلبته الأسلحة النووية فقد تضمن تطويرها واحداً من أهم الاكتشافات على الإطلاق: الطاقة النووية قابلة للاستخدام لأغراض سلمية ومن الممكن أن تكون خياراً أكثر اقتصادية وأقل أثراً بيئياً من الخيارات التقليدية التي تعتمد الفحم والنفط أو حتى الغاز الطبيعي.
في السنوات التالية للحرب تم تطوير العديد من المفاعلات النووية وبنيت العشرات منها حول العالم لتوفر طاقة كهربائية رخيصة نسبياً وخياراً ممتازاً للعديد من البلدان.
بالطبع فالطاقة النووية لم تنتشر بالشكل المعتاد حقاً، فالبلدان التي تستطيع استخدامها لا تزال قليلة اليوم، كما أن بعض البلدان مثل ألمانيا قد باشرت بالتخلي عنها بشكل كامل. لكن ووفقاً لكل ما نعرفه اليوم تعد الطاقة النووية من أكثر طرق توليد الكهرباء اقتصادية كما أنها من الأقل خطورة (على الرغم من الكوارث الكبرى المتعلقة بها مثل حادثة تشيرنوبل ومؤخراً فوكوشيما).