مقال ضيف بقلم: كريستينا سيب، رئيسة قطاع التقنيات والخدمات الصحية في «إنتربرايز إستونيا»
يشهد قطاع الرعاية الصحية عالمياً تحولاً رقمياً سريعاً، مدفوعاً بالحاجة إلى زيادة الكفاءة، وتعزيز إمكانية الوصول، وتحقيق المرونة في مواجهة الأزمات. فمن السجلات الصحية الإلكترونية (EHRs) والتشخيصات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، إلى الطب عن بُعد وأمن البيانات، تُحدث التكنولوجيا تحوُّلاً نوعياً في أساليب تقديم الخدمات الطبية.
وقد بدأت الدول التي استثمرت بالفعل في بنية تحتية رقمية قوية بجني ثمار هذا التحوُّل، متمثِّلةً في رعاية سلسلة للمرضى، وعمليات اتخاذ قرار محسَّنة، ونماذج رعاية صحية قائمة على البيانات. ومع ذلك، يظل الهدف الأسمى لهذه التطورات التكنولوجية هو منح المرضى إمكانية التحكم في صحتهم وبياناتهم وقراراتهم، ليرسموا بأنفسهم ملامح مستقبل أفضل.
التحول نحو الرعاية الصحية الرقمية
أتاح الانتقال إلى أنظمة الصحة الرقمية عملية تبادل سلسة للمعلومات الطبية بين المستشفيات والعيادات والصيدليات. فالسجلات الصحية الإلكترونية (EHRs) توفّر إمكانية الوصول الفوري إلى بيانات المرضى، ما يؤدي إلى تقليل الأخطاء الطبية وتحسين نتائج العلاج. كما تسهم الأنظمة الرقمية للوصفات الطبية في تسهيل العمليات التشغيلية، مستبدلة الإجراءات الورقية بحلول آمنة وفعّالة.
وفي السياق ذاته، باتت العلاجات الرقمية (DTx) جزءاً أساسياً من الطب الشخصي، حيث تساهم الحلول المدعومة بالذكاء الاصطناعي في إحداث تحول جذري في مراقبة أمراض القلب والأوعية الدموية، وإدارة الصداع النصفي، والوقاية من الأمراض المزمنة، ما يمنح المرضى دوراً أكثر فاعلية في إدارة صحتهم. وتتماشى هذه التطورات مع الاتجاه العالمي نحو الرعاية الصحية الوقائية واتخاذ القرارات الطبية المبنية على الأدلة.
التكنولوجيا وإدارة الأزمات الصحية
أصبح وجود بنية تحتية رقمية متطورة أمراً ضرورياً لتحقيق استجابة فعّالة أثناء الأزمات الصحية. ففي تاريخنا الحديث، وخلال جائحة كوفيد-19، سمحت الأنظمة الرقمية في إستونيا، إلى جانب التعاون الناجح بين القطاعين العام والخاص، بالتحول السريع إلى الاستشارات الطبية عن بُعد، والمراقبة الآلية للمرضى، والتتبُّع الرقمي لمعدلات انتشار العدوى. كما لعبت الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في التنبؤ باتجاهات انتشار الفيروس، وإدارة الموارد الطبية بكفاءة، ودعم حملات التطعيم.
الطب عن بُعد.. رعاية بلا حدود
بات الطب عن بُعد يشكل عنصراً أساسياً في الرعاية الصحية الحديثة، حيث أزال العديد من الحواجز التي تحول دون حصول المرضى على الرعاية الطبية، لا سيما في المناطق النائية، أو خلال الأوقات التي تشهد ازدحاماً في المرافق الصحية. وتشير الدراسات إلى أن 60-70% من الزيارات الطبية الأولية يمكن إجراؤها عن بُعد، مما يحسن من كفاءة النظام الصحي مع ضمان جودة الرعاية المقدمة.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك “ديرمتست” Dermtest؛ وهو حل رقمي شامل لإدارة الأمراض الجلدية، إذ يتيح منصة متطورة لتحليل الصور الطبية، مما يعزز دقة التشخيص وكفاءة المراقبة عن بُعد. واستناداً إلى بيانات “ديرمتست”، أظهرت أكبر دراسة دولية حول التشخيص عن بُعد لسرطان الجلد، أن هذا النوع من التشخيص حقق معدل دقة بلغ 95.5% في الكشف عن المرض. كما أسهم في تحسين جودة حياة مرضى الصدفية بشكل ملموس وفقاً للأبحاث المتعلقة بالمرض. ويجري استخدام حلول “ديرمتست” حالياً في 90 منشأة طبية في إستونيا وألمانيا، حيث يتم دعم هذه الحلول بالرموز التأمينية الوطنية لضمان اعتمادها على نطاق واسع وتحقيق فوائد سريرية ملموسة.
حماية البيانات الصحية في العالم الرقمي
مع التحول المتزايد للأنظمة الصحية إلى البيئات الرقمية، أصبح تأمين البيانات الحساسة للمرضى أولوية قصوى. فمن خلال تطبيق ضوابط صارمة للوصول، وبروتوكولات تشفير متقدمة، وحلول أمان تعتمد على تقنية البلوك تشين، يمكن ضمان سلامة البيانات وحماية خصوصية المرضى. ومع توسع النظم الصحية الرقمية، سيصبح الحفاظ على بنية تحتية قوية للأمن السيبراني أمراً ضرورياً لتعزيز ثقة المرضى وترسيخ الامتثال التنظيمي.
في إستونيا، تعد الخصوصية وملكية البيانات من المبادئ الأساسية لحوكمة البيانات الإلكترونية، لا سيما في نظام الصحة الرقمية. ووفقاً لهذه المبادئ، يملك الأفراد بياناتهم الصحية، فيما يُلزم مقدمو الرعاية الصحية بإدراج بيانات المرضى ضمن النظام المركزي للمعلومات الصحية، مع فرض قيود صارمة على الوصول إليها، إذ يقتصر استخدام هذه البيانات على المهنيين المرخصين في المجالات الطبية. كما يتمتع المرضى بحق الاطلاع على سجلاتهم الصحية، مع إمكانية تقييد الوصول إلى معلوماتهم، ورصد الجهات التي قامت بعرض بياناتهم.
نحو رعاية صحية أكثر ذكاءً
ستركز المرحلة القادمة من التحول الرقمي في الرعاية الصحية على التخصيص، والتنبؤ، والوقاية. فمن خلال تحليل البيانات الجينية، والتشخيصات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وأجهزة المراقبة الصحية الذكية، ستُتاح إمكانية توفير خطط علاجية فردية مخصَّصة وفقاً للملف الصحي لكل مريض.
وبفضل البيانات الصحية الفورية والتحليلات الذكية، سيتمكن مقدمو الرعاية من تحديد المرضى الأكثر عرضة للمخاطر مبكراً، وإجراء تدخلات مستهدفة، مما يحوّل التركيز من العلاج التقليدي إلى نماذج الرعاية الوقائية.
يبقى التعاون الدولي عنصراً أساسياً في تسريع اعتماد التقنيات الصحية الرقمية. فمن خلال إعطاء الأولوية للابتكار، وتعزيز الشراكات، ووضع أطر أمنية رقمية قوية، سيصبح مستقبل الرعاية الصحية أكثر كفاءة، وأكثر أماناً، وقبل كل شيء: أكثر تركيزاً على تمكين المرضى وتلبية احتياجاتهم.
شاركت إستونيا مؤخراً في حدث Arab Health المقام في مركز دبي التجاري العالمي. وكانت مشاركة إستونيا في Arab Health 2025 ممولة من قبل الاتحاد الأوروبي – مبادرة NextGenerationEU