شهد عام 2023 الانطلاقة الفعلية لعصر الذكاء الاصطناعي الذي ينبئ بثورة كبرى في الاقتصاد العالمي بالنظر لتأثيراته التي تتغلل بعمق في سيناريوهات أعمال وخدمات مختلف القطاعات والصناعات. ومن المرجح أن يساهم الذكاء الاصطناعي بما يصل إلى15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030 بحسب دراسة حديثة أجرتها شركة برايس ووتر هاوس كوبرز العالمية.
وبينما تحقق بعض دول الشرق تقدماً ملموساً في السباق العالمي للاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي، يواجه الغرب تحديات للحاق بهذا الركب. وتخوض الولايات المتحدة والصين تحديداً منافسة تكنولوجية شرسة بهدف الهيمنة على ميدان الذكاء الاصطناعي. وتشير التوقعات إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساهم بنسبة تصل إلى 14.5% أو ما يمثل 3.7 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. لكن مكاسب الصين الاقتصادية من هذه التقنية أكبر، حيث يتوقع أن تحقق ما يعادل 7 تريليون دولار أو 26.1% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة.
وعلى الرغم من التقدم المبكر الذي حققته الولايات المتحدة في ابتكارات الذكاء الاصطناعي، إلا أنها تواجه تحديات لا يستهان بها في مجال السياسات والأطر التنظيمية الخاصة بهذه التقنية. وأصدر الرئيس الأمريكي مؤخراً أمراً تنفيذياً لمعالجة مخاطر الذكاء الاصطناعي، لكنه بحسب العديد من الخبراء ترك تشريعات خصوصية البيانات الشاملة دون أي حلول، إذ يدعو الأمر التنفيذي الكونجرس إلى تبني تشريع الخصوصية على الرغم من افتقاره إلى إطار تشريعي واستراتيجية للتنفيذ. وهو ما يسبب تبايناً بين الولايات في القوانين التي تحكم هذا المجال حتى حين سن المعايير المناسبة.
وعلى النقيض تماماً، نجحت الصين بسن لوائح تنظيمية قوية للذكاء الاصطناعي، ولعلّ أبرزها «التدابير المؤقتة لإدارة خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي». ويحدد هذا الإطار التنظيمي الشامل نهج الصين في إدارة الكيانات التي توفر قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي للمستهلكين. كما أنه يهدف إلى مواءمة تطور الذكاء الاصطناعي مع الاعتبارات الأخلاقية.
ويتضح التزام الصين بالذكاء الاصطناعي من خلال استثماراتها الكبيرة في هذا المجال. ففي عام 2021، اجتذبت الصين 17 مليار دولار من الاستثمارات الخاصة للشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو ما يؤكد الاهتمام المتنامي والثقة الراسخة في قطاع الذكاء الاصطناعي لهذه الدولة التي تستهدف تحقيق الكثير من المكاسب على مستوى تعزيز فرص تطوير جملة واسعة من القطاعات والصناعات من خلال هذه التقنية الواعدة. علاوةً على ذلك، تحقق الصين تفوقاً بارزاً في أبحاث الذكاء الاصطناعي، حيث ساهمت في ثلث أوراق واستشهادات مجلات الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم في عام 2021.
في مواجهة التقدم الملحوظ الذي أحرزته الصين، قيّدت الولايات المتحدة وصول الأخيرة إلى الرقائق والتقنيات المتقدمة للذكاء الاصطناعي، وتمثل ذلك بالإجراءات التي اتخذتها بحق شركات صينية عملاقة وضعت بصمة واضحة لها في مجال الذكاء الاصطناعي مثل هواوي. لكن وللمفارقة، دفعت هذه العقوبات الشركات الصينية إلى الاستثمار بقوة في مجال البحث والتطوير والسعي للاعتماد على ذاتها لإيجاد بدائل للرقاقات والتقنيات التي حرمت منها.
ويتجلى تركيز الصين على البحث والتطوير في العدد المذهل لبراءات الاختراع التي سجلتها حتى اليوم. فمع نهاية عام 2022، سجلت الصين 4.212 مليون براءة اختراع، مما يجعلها أول دولة تتجاوز 3 ملايين براءة اختراع. ومن الجدير بالذكر أن هيمنة الصين تمتد إلى مجال تقنية الجيل الخامس، مع ملكية ما يقرب من 40% من براءات الاختراع الأساسية القياسية، مما يمنحها تأثيراً كبيراً على توجهات ابتكار وتطوير هذه التقنية. وتمتد هذه المكانة المؤثرة بطبيعة الحال إلى مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تمتلك الصين مخزوناً هائلاً من البيانات والمواهب والاستثمارات الكبيرة يمكّنها من تطوير ونشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في مختلف القطاعات.
وتعتبر هواوي وهي شركة تكنولوجيا صينية بارزة تجسد رؤية جريئة من أبرز اللاعبين في ثورة الذكاء الاصطناعي، وتسعى باستمرار لزيادة زخم استثماراتها في مجال البحث والتطوير خلال السنوات الأخيرة، حيث خصصت له 23.2 مليار دولار خلال عام 2022 فقط، أي ما يمثل 25.1% من الإيرادات السنوية للشركة، ليرتفع إجمالي إنفاقها على البحث والتطوير خلال السنوات العشر الماضية إلى ما يزيد على 134 مليار دولار. وحتى نهاية عام 2022، شارك أكثر من 114,000 موظف، أي ما يمثل 55.4% من القوى العاملة في هواوي في أنشطة البحث والتطوير، وتمتلك الشركة أكثر من 120,000 براءة اختراع صالحة. ويقول العديد من المحللين بأن نجاح هواوي يكمن في قدرتها على دمج الذكاء الاصطناعي بسلاسة مع أحدث التقنيات مثل الجيل الخامس والحوسبة السحابية، ما يثمر عن حلول مبتكرة عبر مختلف القطاعات.
وقد أثبتت الشركة من خلال أمثلة عديدة قدرة الذكاء الاصطناعي على خلق قيمة وتأثير في مختلف القطاعات والسيناريوهات. فعلى سبيل المثال، طورت هواوي نموذج Pangu 3.0، للذكاء الاصطناعي تم تصميمه لمواجهة تحديات القطاعات المتخصصة المعقدة، وتم الاستفادة من نماذج مختلفة لهذا الإصدار أبرزها نموذج التنبؤ بالطقس ونموذج تسريع اكتشاف الأدوية في مجال الأبحاث الطبية. وفي الوقت نفسه، يدعم نموذج «بانغو الخاص بالأدوية» الخدمات التجارية أو التعاون في تطوير خطوط إنتاج الأدوية بين العديد من شركات الأدوية ومعاهد الأبحاث. كما ساعدت الشركة في بناء ميناء تيانجين، أول محطة «ذكية خالية من الكربون» في العالم والتي تعمل من دون سائقين وتستفيد من طيف واسع من قدرات الذكاء الاصطناعي.
تتصدر الصين اليوم عبر جهودها في تنظيم الذكاء الاصطناعي والابتكار مجال أبحاث وابتكارات الذكاء الاصطناعي، مما يؤهلها لإرساء المعايير واللوائح العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي. وفي هذا العصر التحولي، يجب على الدول أن تدرك أن ردم الفجوة بين ابتكار الذكاء الاصطناعي وتنظيمه ليس مجرد منافسة على الهيمنة؛ بل هو فرصة رائعة لتعزيز أطر التعاون العالمي بعيداً عن تأثير السياسة. إذ تمثل الموجة الحالية لريادة الصين لتقنية الذكاء الاصطناعي فرصة أمام الغرب لتبني نهج مبني على التعاون المفتوح ومرتكز إلى الالتزام بالمعايير المتفق عليها دولياً. ومن المهم أن يتسم مستقبل حوكمة الذكاء الاصطناعي بالتعاون والمسؤولية المشتركة. و يجب على دول العالم العمل بفعالية مع الصين ومختلف دول الشرق والغرب الفاعلة في تطوير تقنية الذكاء الاصطناعي في مجال وضع معايير وقواعد عالمية تحكم مستقبل الاستفادة من هذه التقنية وتضفي مزيداً من السلاسة على آفاق سباقها الدولي.
من الضروري أن يحظى تطوير الذكاء الاصطناعي المسؤول والأخلاقي بأهميةٍ عالمية. ويمكن لدول العالم أن تعمل معاً لضمان نشر فوائد الذكاء الاصطناعي على البشرية جمعاء، والحماية من مخاطره المحتملة، وتسخير الفرص المجزية التي يقدمها للعالم بقيمة تصل إلى تريليون دولار لتحسين أوضاع الجميع. ويمكن لهذا الجهد الجماعي أن يتجاوز الحدود الجيوسياسية، ويبني عالماً يصبح فيه الذكاء الاصطناعي قوة للتغيير الإيجابي، ليرتقي في نهاية المطاف بمستويات حياة الناس في جميع أنحاء العالم.