أقوى من الزجاج: العلماء يراهنون على استخدام «الخشب الشفاف» في الإلكترونيات
⬤ أجرى مجموعة من الباحثين دراسات خاصة بإنتاج الخشب الشفاف، وإمكانية استعماله في تصنيع شاشات الهواتف الذكية والنوافذ.
⬤ بينت النتائج أن الخشب الشفاف أقوى بثلاث مرات من البلاستيك الشفاف، وأنه أقوى أيضاً بعشر مرات من الزجاج.
⬤ يركز الباحثون حالياً على تحسين عناصر الاستدامة فيما يخص إنتاج الخشب الشفاف، ويهتمون باستخدام مواد صديقة للبيئة.
قبل أكثر من ثلاثين عاماً تقريباً، استطاع عالم النباتات سيغفريد فينك إنتاج خشب شفاف عبر إزالة الأصباغ من الخلايا النباتية، ونشر فينك تفاصيل تقنيته في دورية متخصصة بتكنولوجيا الأخشاب. وظلت هذه الورقة هي البحث الأخير في مجال الأخشاب الشفافة حتى عثر عليها باحث يدعى لارس بيرجلوند.
يعمل بيرجلوند في المعهد الملكي للتكنولوجيا في السويد، وهو متخصص في مجال مركبات البوليمر، وكان يسعى دوماً للعثور على بديل أكثر متانة من البلاستيك الشفاف. وقد شاركه الاهتمام هذا الموضوع باحثون آخرون في جامعة ميريلاند؛ إذ اهتموا بوسائل لتسخير قوة الخشب في استخدامات غير تقليدية.
ويبدو أنّ أعوام التجارب الطويلة التي أجرتها تلك المجموعات البحثية قد أتت بثمارها؛ إذ يمكن استعمال الخشب الشفاف قريباً في تصنيع شاشات الهواتف الذكية فائقة المتانة، وتركيبات الإضاءة المتوهجة، والنوافذ متغيرة الألوان. ويقول تشيليانج فو، وهو عالمٌ في تكنولوجيا النانو الخاصة بالأخشاب بجامعة نانجينج الصينية: «أرى مستقبلاً واعداً لهذه المادة». والجدير بالذكر أن فو عمل سابقاً في مختبر بيرجلوند عندما كان طالباً في الدراسات العليا.
يتكون الخشب من عدد ضخم من القنوات العمودية الصغيرة، فهذه الخلايا الأنبوبية تنقل الماء والمغذيات في جميع أرجاء الشجرة. وهكذا عندما تُقطع الشجرة وتتبخر الرطوبة منها، تتبقى جيوب من الهواء. لذلك عندما يريد العلماء إنتاج خشب شفاف، فيجب عليهم أولاً التخلص من مادة اللجنين، التي تمنح الجذوع والفروع لونها البني الترابي. وبعد الانتهاء من إزالة اللجنين، يتبقى هيكل أبيض اللون من الخلايا المجوفة.
ويفتقر هذا الهيكل إلى الشفافية لأنّ جدران الخلايا تحني الضوء بدرجة مغايرة عن الهواء الموجود في جيوب الخلايا. ومن هذا المنطلق يمكن تحويل هذا الهيكل إلى خشب شفاف عبر ملء تلك الجيوب بمادة مثل راتنج الإيبوكسي، التي تحني الضوء بدرجة مماثلة لجدران الخلايا.
كانت المادة التي عمل عليها العلماء رقيقةً؛ إذ يتراوح سمكها بين أقل من ميليمتر إلى سنتيمتر تقريباً، لكن الخلايا استطاعت تكوين هيكل قوي مشابه لشكل قرص العسل. كما تبين أن الألياف الخشبية الصغيرة أقوى من أفضل الألياف الكربونية، بحسب كلام عالم المواد ليانجبينج هو، الذي يرأس مجموعة البحث المعنية بالخشب الشفاف في جامعة ميريلاند. وعندما أضيفت مادة الراتينج، تفوق الخشب الشفاف على البلاستيك والزجاج؛ ففي الاختبارات التي تقيس سهولة تكسر المواد أو تصدعها تحت الضغط، بينت النتائج أن الخشب الشفاف أقوى بثلاث مرات من البلاستيك الشفاف، وأقوى أيضاً بعشر مرات من الزجاج. ويعلق هو على هذا الأمر بقوله: «النتائج مذهلة، فقطعة الخشب تبدو قوية مثل الزجاج».
وتنجح هذه العملية في حالات الخشب السميك، غير أنّ الرؤية تصبح أكثر ضبابية. وفي الدراسة الأصلية التي أجراها هو وبيرجلوند عام 2016، اكتشف الاثنان أنّ صفائح الهياكل الخشبية المليئة بمادة الراتنج، التي يبلغ سمكها 1 ميليمتر، تسمح بنفاذ نحو 80% إلى 90% من الضوء. لكن كلما زادت السماكة واقتربت من سنتيمتر واحد، انخفضت نسبة نفاذ الضوء من الخشب.
ولا شكّ أنّ الشكل الرقيق للخشب الشفاف وقوته مفيدان في صناعات كثيرة، فقد يكون بديلا للمنتجات المصنعة من مواد رقيقة وسهلة الكسر (الزجاج أو البلاستيك) مثل الشاشات. وفي هذا الصدد تستخدم شركة Woodoo الفرنسية عملية مشابهة للتخلص من اللجنين في شاشاتها الخشبية، لكنها تترك قليلاً من تلك المادة لإضفاء لون جمالي مختلف.
وتركز الأبحاث الحالية على استخدامات الخشب الشفاف في مجالات البناء، فهو يعد عازلاً أفضل بكثير من الزجاج، مما يعني أنه يساهم في احتفاظ المباني بالحرارة. وكان هو وزملاؤه قد استخدموا أيضاً مادة كحول البولي فينيل حتى تتغلغل في الهياكل الخشبية، فحصلوا على خشب شفاف يوصل الحرارة بمعدل يفوق الزجاج بخمس مرات. وهكذا تصبح النوافذ الخشبية الشفافة أقوى، وتساهم بالتحكم في درجة الحرارة بطريقة أفضل من الزجاج التقليدي، غير أنّ الأمر السلبي هو ضبابية الرؤية عبر الخشب الشفاف. ومع ذلك يمكن أن ينقلب هذا العيب ميزةً إذا أراد المستخدمون مثلاً ضوءاً منتشراً وموزعاً في أرجاء المكان.
ولا يكلّ هو وبيرجلوند من البحث على وسائل أخرى لإضافة ميزات جديدة للخشب الشفاف؛ فقبل خمسة أعوام تقريباً، اكتشف بيرجلوند وزملاؤه في المعهد الملكي للتكنولوجيا ومعهد جورجيا للتكنولوجيا أنهم قادرون على تقليد النوافذ الذكية، التي تتحول من شفافة إلى معتمة لحجب الرؤية عن المتطفلين أو لحجب أشعة الشمس. لذلك وضع الباحثون مادة بوليمر كهربائية لونية بين طبقات الخشب الشفاف المطلي ببوليمر كهربائي لتوصيل الكهرباء، فحصلوا بذلك على لوح خشبي يتحول من شفاف إلى لون أرجواني عندما يمر به تيار كهربائي صغير.
ويواصل الباحثون أيضاً زيادة قدرة الخشب على الاحتفاظ بالحرارة أو إطلاقها. ومن هذا المنطلق انهمكت سيلين مونتاناري، وهي عالمة مواد في معاهد الأبحاث في السويد، وزملاؤها بإجراء بعض التجارب على مواد متغيرة الطور؛ أي أنها تنتقل من تخزين الحرارة إلى إطلاقها عندما تتغير حالتها من الصلبة إلى السائلة. وهكذا عندما دمج الباحثون مادة البولي إيثيلين جلايكول، اكتشفوا أن خشبهم يخزن الحرارة عندما يصبح دافئاً، ويطلقها عند البرودة.
وعكفت مجموعات الأبحاث في الآونة الأخيرة على تحسين عناصر الاستدامة في إنتاج الأخشاب الشفافة؛ فمادة الراتينج تكون غالباً منتجاً بلاستيكياً مشتقاً من النفط، لذلك يحبذ تجنب استخدامها. ولذلك ابتكرت مونتاناري وزملاؤها بوليمراً حيوياً مشتقاً من قشور الحمضيات، فمزجوا بين حمض الأكريليك ومادة الليمونين، ثم حرصوا على أن يتشرّب الخشب ذلك المزيج. وبينت النتائج أنّ الخشب الشفاف حافظ على خصائصه الميكانيكية والبصرية؛ إذ تحمل نحو 30 ميغا باسكال من الضغط أكثر من الخشب العادي، وسمح بنفاذ نسبة قدرها 90% من الضوء.
في المقابل أعلن مختبر هو عن توصله إلى طريقة أكثر استدامة لتبييض اللجنين، وهي تعتمد على بيروكسيد الهيدروجين والأشعة فوق البنفسجية، مما يؤدي تقليل متطلبات الطاقة خلال عملية الإنتاج. وأتى الباحثون بشرائح خشبية رقيقة يتراوح سمكها بين 0.5 إلى 3.5 ملم، ومسحوها باستخدام بيروكسيد الهيدروجين، ثم تركوها أمام مصابيح الأشعة فوق البنفسجية، فأدت تلك الأشعة إلى تبييض الأجزاء التي توجد فيها صبغة اللجنين، في حين ظلت الأجزاء الأخرى سليمة على حالها.