الذكاء الاصطناعي: شريك المستقبل في تطوير التعليم العالي

مقال ضيف بقلم الدكتور علي بن سعود البيماني، رئيس الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا، سلطنة عمان


يشهد عالمنا اليوم تحولاً جذرياً بفضل التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي، والذي بات يؤثر على شتى جوانب حياتنا ويعيد تشكيل قطاعاتٍ شتى، بما فيها قطاع التعليم. ومع دخولنا حقبةً جديدة قائمة على تطوّر أساليب التدريس والتعلّم والبحث، من المتوقع لمؤسسات التعليم العالي أن تشهد نهضةٍ علمية استثنائية بفضل الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي. حيث بات من الضروري تطوير أساليب تعليمية مبتكرة تلبي احتياجات الطلاب المتنوعة وتساعدهم على الاستفادة القصوى من فرص التعلم المتاحة.

يشكل الذكاء الاصطناعي منارة إرشاد في مجال التعليم المخصص، والذي يعد أحد أكثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي الواعدة في مجال التعليم؛ حيث تستخدم أنظمة التعلم التكيّفي خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل أداء الطلاب في الوقت الفعلي، وتصميم مسارات تعليمية مخصصة تلبي احتياجاتهم. وتحدد هذه الأنظمة فجوات المعرفة لدى الطلاب، وتقترح المصادر المناسبة لمعالجتها، وتتوقّع أدائهم المستقبلي، مما يخلق مسارات تعليمية فريدة وملائمة لاحتياجات كل طالب.

إن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي في التعليم هو استثمار في مستقبل أجيالنا، حيث سيساعدنا على بناء مجتمعات معرفية قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.

علاوةً على ذلك، نشهد ظهور أنظمة التدريس القائمة على الذكاء الاصطناعي والتي تقدم الدعم التعليمي بصورةٍ فردية مخصصة لكل طالب؛ حيث يستخدم المعلم الافتراضي تقنيات مختلفة لتقديم ملاحظاتٍ فورية وتبسيط المفاهيم المعقدة وشرحها بأسلوبٍ يناسب نمط تعلم كل طالب على حدة، مما يثري التجربة التعليمية.

وعلى المستوى الإداري، يرفد الذكاء الاصطناعي المعلمين والإداريين بالأدوات اللازمة لتبسيط العمليات وتحسين عملية اتخاذ القرار. أما في مجال القبول الدراسي والجامعي، فتستطيع الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي تحليل مقابلات الفيديو والمقالات الجامعية، مما يساعد الجامعات في اتخاذ قرارات مدروسة. ويمكن أيضاً توظيف خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحسين المهام الإدارية، مثل جدولة الدورات التعليمية وتخصيص الموارد، مما يوفر للموظفين الوقت الكافي لتقديم الدعم الأكاديمي للطلاب.

 على مستوى الفصول الدراسية، يُحدث الذكاء الاصطناعي نقلةً نوعية في إنشاء المحتوى وتقديمه؛ حيث يستثمر الذكاء الاصطناعي التوليدي قدرات معالجة اللغة الطبيعية لتقديم ملاحظاتٍ فورية على الأعمال المكتوبة، بينما تقوم منصات المحتوى الذكي بتوليد كتب تعليمية مخصصة عن طريق جمع المعلومات من مصادر متنوعة. وتوفر هذه التقنيات الوقت على المعلمين وتضمن حصول الطلاب على مواد تعليمية مواكبة للتطورات ومُصممة خصيصاً لتحقق أهداف المسار الدراسي.

مواضيع مشابهة

وفي مجال البحث العلمي، يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقاً جديدة؛ حيث تعمل خوارزميات التعلم الآلي على تحليل مجموعات ضخمة من البيانات بسرعاتٍ هائلة، مما يسرّع وتيرة الاكتشافات في مختلف المجالات، بدءاً من علم الجينوم وصولاً إلى علم المناخ. على سبيل المثال، حقق نموذج «بانغو دراج موليكيول» (Pangu Drug Molecule Model) من هواوي تقدماً غير مسبوق في مجال تسريع اكتشاف المركَّبات الدوائية الرئيسية، حيث قلّص المدة الزمنية من عدة سنوات إلى شهر واحد فقط، الأمر الذي قلل تكاليف البحث والتطوير للأدوية بنسبة 70%. علاوة على ذلك، يعزز الذكاء الاصطناعي البحث التعاوني من خلال مساعدة الباحثين في اكتشاف الأوراق البحثية ذات الصلة وتحديد المتعاونين المحتملين عبر المجالات المعرفية، مما يحفز عملية البحث ويعزز الابتكار بين التخصصات المتعددة.

على صعيد آخر، يساهم الذكاء الاصطناعي في تعزيز رفاهية الطلاب وتوسيع آفاقهم المهنية؛ إذ تعمل أنظمة التوجيه المهني المدعومة بالذكاء الاصطناعي على تحليل المهارات والاهتمامات لاقتراح مسارات مهنية محتملة، وتحسين السير الذاتية لطلبات عملٍ محددة. ومن جهةٍ أُخرى، يساهم الذكاء الاصطناعي بشكلٍ حيوي في دعم الصحة النفسية؛ حيث تقدم برامج الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي دعماً للصحة النفسية على مدار الساعة، وذلك باستخدام تقنيات العلاج السلوكي المعرفي التي تساعد الطلاب على التعامل مع التوتر والقلق. ومع أن هذه الأدوات لا تحل محل الاستشاريين والأطباء، إلا أنها توفر دعماً أولياً يسهل الوصول إليه.

تقليص الفجوة بين التعليم وقطاع التكنولوجيا 

إن تعقيد الذكاء الاصطناعي وتسارع وتيرة التطور التكنولوجي يضعان المؤسسات التعليمية أمام تحدٍ كبير يتمثل في معالجة الفجوة بين التعليم وتطورات قطاع التكنولوجيا، مما يستدعي تضافر الجهود وإقامة شراكات استراتيجية تجمع المؤسسات التعليمية والهيئات الحكومية والشركات الرائدة في القطاع. وتوضح المبادرات المهمة، مثل أكاديمية هواوي لتقنية المعلومات والاتصالات التي تتعاون مع جامعاتٍ عالمية مرموقة، دور التعاون بين الأوساط الأكاديمية في دعم الطلاب وتزويدهم بالأدوات العملية والمصادر والمعرفة اللازمة لمواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة.

ولتحقيق هذه الأهداف الطموحة، يتطلب الأمر استثماراً متواصلاً في البنية التحتية الرقمية للجامعات وتطوير الكوادر البشرية. كما يتعين على الجامعات الالتزام بتحديث برامجها الدراسية وتدريب أعضاء هيئاتها التدريسية على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي لضمان إعداد أجيال جديدة من الخريجين المؤهلين لمواجهة تحديات المستقبل في عصر يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي.

على سبيل المثال، تضطلع العديد من الهيئات الحكومية في سلطنة عُمان بدورٍ محوري في التوظيف الصحيح للقوة التحويلية للذكاء الاصطناعي؛ حيث تعمل وزارة التربية والتعليم على دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية لتعزيز محو الأمية الرقمية منذ سن مبكرة، وإعداد الطلاب لمواكبة مستقبل قائم على التكنولوجيا. وبالمثل، تتعاون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار مع الشركات العالمية الرائدة في مجال التكنولوجيا لجلب أبحاث وتدريبات الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الجامعات العمانية، مما يضمن مواءمة التعليم العالي مع احتياجات القطاع. وفي الوقت نفسه، تقود وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات مبادراتٍ مهمة لتأسيس بنية تحتية رقمية متينة، وتمكين التطبيق السلس لأدوات الذكاء الاصطناعي عبر القطاعات. وتعمل هذه الوزارات معاً على قيادة استراتيجية شاملة تهدف إلى ترسيخ مكانة عُمان كدولةٍ رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي والتقدم المجتمعي.

في عالم ترسم حدوده تقنيات الذكاء الاصطناعي، يكتسب التعليم أبعاداً جديدة ومشوّقة. وبالتوازي مع هذا التحول الهائل، علينا أن نبقى ملتزمين بالقيم الأساسية التي تمثل جوهر التعليم والبحث العلمي: التفكير النقدي والإبداع والتواصل الإنساني مع توظيف القوة التحويلية للذكاء الاصطناعي لبناء عالم أكثر استدامة وشمولاً.

شارك المحتوى |
close icon