رغم كره السائقين لها، لماذا تستمر شاشات اللمس باستبدال المفاتيح في السيارات؟
مع أن العديد من نواحي وجودها في السيارات قد تكون مخفية للسائقين، فقد اقتحمت التقنيات الإلكترونية مجال النقل بشكل كبير عبر العقود الماضية. وفي عالم اليوم، بات من المعتاد للسيارات أن تكون مزودة بحساسات محيطية تساعد أثناء القيادة أو عند الركن، بالإضافة لعدد متزايد من الكاميرات، والعديد من أنظمة مساعدة السائقين مثل تثبيت السرعة، وتحديد المسار، وحتى التوقف التلقائي لتجنب الحوادث المرورية. لكن ومنذ تقديم سيارة Tesla Model Sللمرة الأولى عام 2012، ظهر نوع جديد من استخدام التقنيات في السيارات: شاشات اللمس الكبيرة.
في البداية، حصلت سيارات Tesla Model S على إعجاب مختلف من جربوها، فقد كانت تبدو كالتطور المنطقي للسيارات. حيث إنها سيارة كهربائية صفرية الانبعاثات مع تصميم حديث وتسارع ينافس أفضل السيارات الرياضية حتى. وضمن المقصورة، بدت الشاشة الكبيرة بقياس 17 بوصة كخيار مميز للتحكم الكامل بالسيارة بدلاً من الطرق التقليدية. وبينما سعت مختلف شركات السيارات لاستنساخ هذا التركيز الهائل على شاشات اللمس مع الوقت، فقد تغير موقف السائقين منها تدريجياً. وفي الوقت الحالي، بات هناك عدد كبير من السائقين الذين يريدون العودة إلى الشكل التقليدي للتحكم بالسيارات.
بطبيعة الحال، لم تكن سيارة Tesla Model S أول سيارة تستخدم شاشات اللمس داخل المقصورة إذ تعود هذه التقنية إلى سيارات فاخرة من الثمانينيات والتسعينيات، لكن كان لاستخدام سيارات Model S مكانة خاصة بالنظر إلى تزامنها مع صعود الأجهزة اللوحية وازدياد التركيز على الميزات الترفيهية للسيارات.
هل تجلب الشاشات فائدة حقيقية للسيارات؟
الجواب البسيط هنا هو نعم دون أي شك. حيث تمتلك الشاشات العديد من الفوائد الممكنة سواء للسائقين أو الركاب معهم على حد سواء. حيث يمكن لاستبدال العدادات التقليدية التي تشير للسرعة ودورات المحرك بشاشة ذكية تحقيق الكثير من الفائدة من حيث قابلية الاستخدام. وبالنظر إلى كون السيارات الحديثة تأتي مع أنظمة توجيه بالأقمار الصناعية، بالإضافة لكونها مزودة بالعديد من أنظمة المراقبة التي تكفل للسائق بيانات إضافية مثل وجود سيارات في النقطة العمياء أو تقديم عرض من كاميرا أمامية منخفضة في سيارات الدفع الرباعي كبيرة الحجم.
كإضافة لما هو متاح أصلاً في السيارات، لا شك بكون الشاشات أمراً مفيداً للغاية، وبالأخص في السيارات الفاخرة والرياضية التي تعج بالخيارات لنمط القيادة والتحكم الدقيق بالتكييف وسواها. لكن المشكلة الأكبر تظهر عندما تتحول الشاشات إلى بديل، وهو ما ظهر بشكل متزايد في السنوات الأخيرة. حيث بدأ الأمر من السيارات الكهربائية، وسرعان ما انتقلت العدوى إلى السيارات التقليدية أيضاً. ومع الوقت تناقص عدد المفاتيح وأدوات التحكم اليدوية في السيارات لينعدم بشكل كامل في بعض الحالات.
وجود الشاشات ليس مشكلة، بل الاكتفاء بها فحسب
بالنظر إلى كونها تستخدم أنظمة حاسوبية متقدمة، فلا شك بأن شاشات اللمس تعكس مستوىً عالياً من الاهتمام بالتقنية. ولعل هذه الناحية هي ما جعلتها فكرة مغرية للغاية للكثير من السائقين في البداية. لكن وبينما تعد التقنية الإضافية لشاشات اللمس ميزة مهمة في الكثير من الاستخدامات الأخرى، فالأمور لا تنعكس بالضرورة على قيادة السيارة. حيث من المعتاد أن يتحكم سائقو السيارات العديد من الأمور بأنفسهم أثناء القيادة، وهنا ربما يظهر العيب الأهم للشاشات، وهو أنها تقنية بصرية.
مشكلة شاشات اللمس الأساسية في السيارات هي نفس المشكلة التي تجعل استخدام الهاتف أثناء القيادة أمراً يعاقب عليه القانون. حيث تشغل الشاشات عيني السائق عن الطريق وتشتت انتباهه، ويعد ذلك أحد أهم أسباب الحوادث المرورية.
يظهر الاعتراف بمشكلة أمان شاشات اللمس في السيارات بوضوح لدى النظر إلى المعايير الجديدة التي وضعها مجلس سلامة النقل الأوروبي. حيث تقتضي القواعد الجديدة وجود أزرار ومفاتيح فيزيائية لأداء المهام الأساسية للسيارة لتتمكن من الحصول على تقييم سلامة بتقدير 5 نجوم. ولا تأتي القواعد الجديدة عن عبث، بل أنها تستند إلى واقع بسيط: المفاتيح لا تتطلب إزاحة نظر السائق عن الطريق للتحكم بها، بل سرعان ما يطور السائقون «ذاكرة عضلية» تتيح لهم التحكم بمختلف خواص السيارة بسهولة. لكن هذه الذاكرة العضلية غير موجودة مع شاشات اللمس، حيث تكون معظم الميزات مخفية في قوائم وشاشات متعددة من جهة، كما أنها تفتقد لرد الفعل اللمسي الذي يخبر السائق بأنه نفذ المهمة بنجاح.
في الواقع وحتى في حال افترضنا كون السائق لم يطور أي ذاكرة عضلية للسيارة، فقد أظهرت الأبحاث أن المفاتيح لا تزال هي الطريقة الأسرع للتحكم بالسيارة. حيث استعرضت تجربة أجرتها مجلة Vi Bilägare السويدية عام 2022 التباين الهائل بين سيارة تعود لعام 2005 من طراز Volvo V70بالمقارنة مع 11 سيارة حديثة مزودة بشاشات لمس. وبينما لم يحتج أداء عدة مهام أساسية سوى 10 ثوانٍ في السيارة القديمة، فقد احتاجت السيارات الأحدث فترات أطول تجاوزن بمعظمها 20 ثانية، فيما وصلت إحداها حتى 44 ثانية.
لماذا التمسك بشاشات اللمس إذاً؟
قد يبدو الأمر عكس ما هو متوقع، لكن شاشات اللمس باتت أرخص من المفاتيح والأزرار حالياً. حيث أن سعر شاشات اللمس وحتى الشرائح المشغلة لها منخفض إلى حد بعيد، فيما أن تصميم واجهات السيارات وإعادة تخصيصها لتتضمن عدداً مختلفاً من المفاتيح والأزرار وسواها عملية أكثر تكلفة، وبالأخص عندما تكون التغيرات صغيرة كتلك الحاصلة بين نسخ عامين متتاليين من نفس السيارة. وعندما نضيف إلى الأمر كون نظام تشغيل السيارة يمكن أن يتم تطويره لكامل خط منتجات الشركة مرة واحدة بدلاً من نظام التحكم التقليدي المخصص لكل طراز على حدة، يظهر التباين في التكلفة بشكل أكبر حتى.
تعد هذه الناحية مثيرة للاهتمام لأنها تظهر انقلاب حالة الشاشات في السيارات من كونها ميزة حصرية للسيارات الأكثر فخامة أو تلك المستقبلية في الماضي، لتصبح الآن وسيلة لتوفير المال وتخفيض تكاليف البحث، والتطوير، والتصنيع للسيارات.
لحسن الحظ، يبدو أن التيار الذي شهدناه عبر العقد المنصرم قد بدأ بالتباطؤ في السنوات الأخيرة. حيث لم تعد الشاشات البراقة كافية لإغراء السائقين وجعلهم يعتقدون أن السيارة أكثر تطوراً، وبالأخص مع كون نسبة متزايدة من السائقين يريدون تجنب السيارات عديمة الأزرار بشكل كامل. ومع رد الفعل الغاضب من السائقين، استجابت عدة شركات للأمر أخيراً، حيث أعادت بورشه الأزرار لسيارة كايان لعام 2024 متخلية عن شاشة اللمس العملاقة للجيل السابق، فيما تخلت شركة VW عن خططها لتضمين أزرار لمس على عجلة القيادة كبديل للأزرار التقليدية.
الآن يبدو أننا على مفترق طرق بالنسبة لمستقبل استخدام الشاشات في السيارات الحديثة. حيث إن دخول هذه الشاشات إلى السيارات يبدو غير قابل للعكس، لكن المتغير الأساسي هو مدى هيمنة هذه الشاشات. وبالنظر إلى مخاوف الأمان المتزايدة، والتوصيات التشريعية الجديدة، فمن الأرجح أن نشهد تراجعاً تدريجياً لتصميم «الجاهز اللوحي المدولب» الذي دفعت به Tesla للأمام، وذلك مقابل عودة المقاربة المتوازنة التي تسمح للسائقين بالحصول على الميزات الأحدث دون التضحية بقابلية الاستخدام ومع الحفاظ على أعلى معايير الأمان على الطرقات.