أثر الذكاء الاصطناعي على الصناعات المالية، ومستقبله في الشرق الأوسط – حوار مع بلومبرغ

يمر سوق البيانات اليوم بتحولات كبرى، وبالأخص في المجال المالي حيث تتسارع خطوات الشركات لاستغلال التقنيات، وبالأخص الذكاء الاصطناعي على أمل التنبؤ بحركة الأسواق بشكل أفضل، واتخاذ قرارات مربحة بناءً على ذلك.
للحديث عن الأمر، استغلينا فرصة حضوره في دبي للقاء السيد شون إدواردز، رئيس قسم التكنولوجيا في بلومبرغ، الشركة الرائدة في مجال البيانات المالية وتتبع الأسواق. وخلال اللقاء حدثنا السيد إدواردز عن مقاربة شركته لاستخدام التقنية، والمستقبل المتوقع لاستخدامات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى في مجال البيانات المالية والأسواق.
هلَّا حدثتنا عن رحلة بلومبرغ، وكيف أصبحت لاعباً بارزاً في التكنولوجيا التي تدعم عالم المال اليوم؟
تأسست مجموعة بلومبرغ قبل أكثر من 40 عاماً بهدف تحقيق الشفافية في الأسواق المالية. حيث بدأت الشركة بالتركيز على أسواق السندات، وقد لعبت التكنولوجيا دوراً رئيسياً منذ البداية، إذ قام المؤسسون بتصميم وتطوير محطات «بلومبرغ تيرمينال» (Bloomberg Terminal) من الصفر، إضافة إلى إنشاء شبكة خاصة تربط العملاء عبر القطاع المالي.
بعد ذلك، وسَّعت الشركة عملياتها لتشمل معلومات حول فئات الأصول الأخرى، وأطلقت شبكة «أخبار بلومبرغ» قبل 35 عاماً، حيث كانت الأخبار متاحة أولاً على محطات بلومبرغ تيرمنال، ثم بدأت بجمع مختلف أنواع البيانات المالية وإتاحتها للعملاء. ومنذ أكثر من 20 عاماً، أطلقت بلومبرغ خدمة «إنستانت بلومبرغ» التي تعد إحدى أول أدوات التراسل الفوري في العالم، وذلك بغية ربط المتخصصين الماليين أحدهم بالآخر وبعملائهم. كما كانت بلومبرغ من أوائل الشركات التي صمَّمت تطبيقات لها على الأجهزة المحمولة، بدءاً من هواتف «بلاك بيري» التي كانت مفضلة لدى العاملين في القطاع المالي، ومن ثم هواتف iPhone وتلك العاملة بنظام Android، ووصولاً إلى الأجهزة اللوحية مثل iPad، وأخيراً نظارات الواقع الافتراضي والمعزز مثل نظارات Apple Vision Pro.
ندرك في مجموعة بلومبرغ أن المتخصصين في أسواق المال يحتاجون إلى أحدث المعلومات عند اتخاذ قرارات مالية وتجارية مهمة. ومن خلال استخدام أحدث التقنيات لتوفير بيانات وأخبار ورؤى تحليلية موثوقة لعملائنا، وبفضل الربط بين المجتمعات المؤثرة ضمن المنظومة المالية العالمية، تساهم بلومبرغ في تعزيز التعاون وتزويدهم بالمعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات مستنيرة. واليوم، ما زالت حلولنا تضطلع بدور أساسي في تعزيز الشفافية والكفاءة والعدالة في الأسواق المالية العالمية.
في السنوات الأخيرة، أصبحت الخوارزميات تتحكم بالأسواق المالية أكثر من البشر. هل نحن مقبلون على عالم يصبح فيه المال لعبة تكنولوجية بحتة؟
على الرغم من الدور المتزايد الذي تلعبه الخوارزميات في الأسواق المالية، لا أعتقد أن مجال المال سينحسر ليصبح مقيداً بمجال التكنولوجيا فحسب على المدى المنظور، بل أعتقد أننا سنتوجه إلى اعتماد نموذج هجين تتكامل فيه الخبرة البشرية مع الذكاء الاصطناعي.
يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة لتعزيز الكفاءة التشغيلية للمتخصصين الماليين، وهو أداة قيمة جداً تساعدهم على اتخاذ قراراتهم المهمة. لهذا السبب، تعتمد بلومبرغ على الذكاء الاصطناعي منذ أكثر من 15 عاماً لفرز الكم الهائل من المعلومات ومعالجة الحجم المتزايد من البيانات بالسرعة المطلوبة، الأمر الذي يساعد عملاءنا على الوصول إلى كل ما يحتاجون إليه لاتخاذ قرارات أكثر ذكاءً.
بطبيعة الحال، يهيمن التداول القائم على الخوارزميات – المدعوم بشكل متزايد بالذكاء الاصطناعي – على بعض مجالات الأنشطة المالية (مثل تنفيذ الصفقات والمراجحة على الأخبار والأحداث السوقية) حيث تتم العمليات بسرعات وكفاءة تفوق قدرات البشر. كما تعتمد المؤسسات الاستثمارية بشكل متزايد على نماذج الذكاء الاصطناعي لتحليل كميات هائلة من البيانات للحصول على ميزة تنافسية. إضافة إلى ذلك، تزداد شعبية «المستشارين الروبوتيين»، حيث أصبحت هذه التطبيقات تدير المحافظ الاستثمارية للمستثمرين الأفراد بتدخل بشري محدود.
لكن وحتى في ظل ما سبق، لا أعتقد أن التكنولوجيا يمكن أن تقضي تماماً على التأثير البشري؛ فما زالت نماذج الذكاء الاصطناعي تعتمد على البيانات والأهداف التي يحددها البشر، وهي تتأثر بتحيزاتهم، وبالأطر التنظيمية والسياسات الاقتصادية الشاملة. كما أن الأحداث غير المتوقعة (outliers) كثيراً ما تربك الخوارزميات التي يتم تدريبها على البيانات التاريخية. إضافة إلى ذلك، ما زالت هناك حاجة إلى العلاقات القائمة على الفهم الإنساني والثقة، فضلاً عن المتطلبات الأخلاقية والقانونية، مثل الحيلولة دون التلاعب في الأسواق وضمان العدالة، الأمر الذي يتطلب إشرافاً بشرياً.
لذلك، في المستقبل المنظور، سيكون النهج الأمثل للأسواق المالية هو نهج يدمج بين الإبداع البشري وكفاءة الآلة. أما الرابحون، فهم أولئك الذين سينجحون في دمج العنصرين بفاعلية ضمن استراتيجياتهم الاستثمارية.
ما الذي دفع بلومبرغ إلى تطوير نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بها؟ وما هي أبرز التحديات التي واجهتكم في هذه العملية؟
قبل نحو ثلاث سنوات، عندما نُشرت الورقة البحثية الخاصة بـ GPT-3 ولم يكن أحد قد سمع عن ChatGPT بعدُ، قرر مهندسونا في مجال الذكاء الاصطناعي إجراء بحوث حول تقنية «المحولات»، وهي مقاربة جديدة للذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغة الطبيعية. كان هدفهم يتمثل في معرفة ما إذا كان يمكن لنموذج محول يتم بناؤه من الصفر وتدريبه على بيانات مالية أن يتفوق على النماذج العامة المتاحة آنذاك. وقد أثبت بحثنا، الذي أدى إلى تطوير نموذج لغوي (غير تجاري) يضم 50 مليار معامل، أن هذا النموذج يتفوق بفارق كبير على النماذج المتوفرة في المهام المالية، دون أن يكون ذلك على حساب أدائه في معايير النماذج اللغوية الكبيرة العامة.
وقبل وقت قصير من نشر ورقتنا البحثية حول BloombergGPT (والتي تتضمن بعض التحديات التقنية التي واجهناها أثناء التدريب)، أطلقت شركة OpenAIنموذج ChatGPT الذي ساعد على انتشار هذه التكنولوجيا وجعلها في متناول الجميع، ولم يعد الوصول إلى الذكاء الاصطناعي حكراً على مهندسي البرمجيات فقط، إذ مكَّن الذكاء الاصطناعي التوليدي المستخدمين من التفاعل مع هذه النماذج باستخدام اللغة المحكية.
وسرعان ما انتشرت النماذج الجديدة مفتوحة المصدر والتجارية، ووجدنا أن النهج الأكثر كفاءة يتمثل في الاستفادة من هذه النماذج المختلفة وتكييفها لتناسب الاحتياجات المالية، بدلاً من مواصلة تطوير نماذج جديدة من الصفر.
على مدار السنوات الماضية، مكّنتنا بحوثنا المستمرة في مجال النماذج اللغوية الكبيرة من فهم الإمكانات الهائلة – وكذلك القيود – التي تفرضها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي. واليوم، تسهم هذه البحوث في صياغة استراتيجيتنا الأوسع للذكاء الاصطناعي التوليدي، كما توجِّه نهجنا في تطبيق هذه التكنولوجيا في المجال المالي، فضلاً عن وضع الضوابط اللازمة عند استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في منتجاتنا.
يساعدنا هذا التركيز على تطوير تطبيقات عملية تسخِّر إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي لحل مشكلات الأعمال الحقيقية التي يواجهها عملاؤنا. على سبيل المثال، عادةً ما يقضي المحللون الماليون ساعات طويلة في الاستماع إلى المكالمات الجماعية وقراءة تقارير أرباح مؤلفة من 80 صفحة، وذلك بغية استخلاص رؤى تحليلية واتخاذ قرارات حول الإجراءات الاستثمارية التي يجب اتخاذها أو التوصية بها. ومن خلال استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، يمكننا تلخيص عشرات الآلاف من الكلمات إلى نقاط رئيسية محددة، ما يساعد المحللين على الوصول بسرعة إلى إجابات دقيقة للأسئلة التي يطرحونها حول تقارير الأرباح. ولا يقتصر أثر هذا على توفير الوقت فحسب، إذ يُمكِّن المحللين أيضاً من توسيع نطاق تحليلاتهم لتشمل المزيد من الأوراق المالية.
يتمثل التحدي الأصعب في بناء هذه التقنيات بطريقة تجعلها دقيقة وموثوقة بحيث يمكن لعملائنا الاعتماد عليها. ويتطلب ذلك أكثر من ضبط نموذج لغوي كبير، إذ ينطوي على خطوات ما قبل المعالجة، مثل فحوصات الأمان، وخطوات ما بعد المعالجة، مثل التحقق من صحة المعلومات ومراجعة الدقة اللغوية، إلى جانب عمليات تدريب مكثفة يشرف عليها خبراء متخصصون في المجال.
وليس هذا إلا البداية. لقد اعتمدنا رؤية طموحة لتوظيف الذكاء الاصطناعي التوليدي تهدف إلى جعل محطات بلومبرغ تيرمنال أكثر سهولة في الاستخدام، وأكثر قابلية لاكتشاف المعلومات، وأكثر فائدة لعملائنا. أنا أتطلع بحماس إلى مستقبل هذه التكنولوجيا، وإلى الابتكارات الجديدة التي نعمل على تطويرها، والتي ستساعد المتخصصين الماليين على التحرك بشكل أسرع، والعمل بذكاء وبطرقة استراتيجية، فضلاً عن تحقيق نتائج أفضل.
في ضوء تواجدكم هنا في دولة الإمارات، كيف ترون مستقبل المنطقة، ولاسيما في ظل التحول التكنولوجي الذي تشهده بعض الدول؟
تشهد المنطقة تحولاً تكنولوجياً واسعاً يلعب فيه الذكاء الاصطناعي دوراً رئيسياً في مسيرة التحول الرقمي والاقتصادي. وتستثمر كل من دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية بشكل مكثف في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي والبحوث التي تتناوله، وذلك بغية تضمين هذه التقنيات في القطاعات الرئيسية. ولعل أحد الأمثلة في دولة الإمارات هو استهداف شركة MGX (التابعة لحكومة إمارة أبوظبي) توفير 100 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي والتقنيات ذات الصلة في المنطقة، فضلاً عن المساعدة على تمويل بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي في فرنسا، وهو ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قمة الذكاء الاصطناعي التي عُقدت قبل بضعة أسابيع.
كما أعلنت أبوظبي الشهر الماضي عن طموحها الذي يهدف إلى أن تصبح أول حكومة في العالم تعتمد على الذكاء الاصطناعي بالكامل في جميع خدماتها الرقمية بحلول عام 2027. وفي الوقت نفسه، أطلقت المملكة العربية السعودية مشروع Transcendence الذي يمثل مبادرة بقيمة 100 مليار دولار تركز على تطوير مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، ودعم الشركات الناشئة، وإنشاء نماذج ذكاء اصطناعي باللغة العربية.
وباستمرار تطور الذكاء الاصطناعي، لا شكَّ في أنه سيترك تأثيراً كبيراً على الأسواق المالية والخدمات الحكومية والقطاعات الاقتصادية الأوسع. ويشكِّل النهج الذي تتبعه دول الشرق الأوسط – القائم على الاستثمار في البنية التحتية، وتطوير السياسات الداعمة، وتعزيز الابتكار – نموذجاً يستحق الاهتمام خلال السنوات المقبلة.