نحو علاقة تكاملية بين المصارف وشركات التقنية المالية
مقال ضيف بقلم أحمد جابر، الرئيس التنفيذي لشركة CoorB
يشهد القطاع المالي في العالم تغيرات متسارعة فرضتها الاتجاهات التقنية الثورية التي قادت إلى ظهور شركات التقنية المالية. ومنذ بداية ظهورها، وضعت شركات التقنية المالية المصارف التقليدية أمام تحديات كبيرة من حيث القدرة على خدمة العملاء بالشكل الذي يريدونه حقاً، وصعوبة تكيف المؤسسات التقليدية مع المتطلبات الجديدة للسوق.
بحكم الدور المهم الذي تلعبه المصارف التقليدية في الاقتصاد والحفاظ على الاستقرار المالي، فهي تختلف دون شك عن شركات التقنية المالية من حيث المرونة واعتماد التكنولوجيا المبتكرة؛ إذ تعمل المصارف التقليدية ضمن بيئة يحكمها إطار تنظيمي صارم عادة، وتغطي الأطر التنظيمية للمصارف مجموعة واسعة من المتطلبات التي تشمل: الحوكمة، والامتثال، والأمن، وإدارة المخاطر، ومنع الاحتيال، والمعايير الإجرائية.
وبينما تضمن هذه البيئة التنظيمية الاستقرار والثقة، فقد تؤدي في الوقت ذاته إلى الحذر الزائد لدى تبنّي الابتكار، حيث يشكّل الامتثال التنظيمي وإدارة المخاطر أولوية على حساب التطوير المتسارع للمنتجات عند بعض المصارف التقليدية. في المقابل، تعمل شركات التقنية المالية في بيئة أقل قيوداً على المستوى التنظيمي مقارنة بالمصارف التقليدية. وتمكّنها هذه المرونة التنظيمية من تبنّي الابتكار بسرعة أكبر، متيحةً لها تجربة الحلول التقنية الجديدة. لكن بالمقابل، تواجه شركات التقنية المالية ضغوطاً جمة من أجل الحصول على الإيرادات وتحقيق الربح بشكل سريع، الأمر الذي قد يزيد من احتمالية وجود المخاطر والأخطاء.
التكامل لتحقيق النمو
وسط هذا الاختلاف في النهج، تظل إمكانية بناء علاقة تكاملية بين المصارف وشركات التقنية المالية قائمةً، فلكل منهما نقاط قوة تتكامل مع بعضها بعضاً، ويمكن لها أن تعود بالنفع المتبادل على الطرفين. فعلى سبيل المثال، تمتلك المصارف قواعد عملاء واسعة وبنية تحتية متينة، ما يجعلها شريكاً مثالياً لشركات التقنية المالية التي تسعى للوصول إلى شرائح محددة ومستهدفة من العملاء؛ مثل الشباب. لكن من جهة أخرى، تقدّم شركات التقنية المالية حلولاً تكنولوجية مبتكرة يمكن أن تساعد المصارف على تسريع مساعي التحوُّل الرقمي والتكيُّف مع احتياجات العملاء المتغيرة.
استناداً إلى ذلك، يُعَدُّ التعاون بين المصارف وشركات التقنية المالية أمراً أساسياً للاستفادة من نقاط القوة لدى كل منهما، وتلبية احتياجات السوق بشكل أكثر كفاءة. فإنْ اتجهت المصارف نحو التنافس المباشر مع شركات التقنية المالية، قد تواجه العديد من الصعوبات نتيجة القيود العملية وما تفرضه من إبطاء عمليات تطوير المنتجات والتكيف مع احتياجات العملاء. أما شركات التقنية المالية، فربما تواجه تحديات في بناء قاعدة عملاء واسعة وثقة كبيرة كالتي تمتلكها المصارف فعلياًَ. لذلك، بدلاً من الصراع التنافسي بينهما، لا مناص للمصارف وشركات التقنية المالية من استكشاف فرص التعاون بينهما؛ لإنشاء نظام بيئي يعود بالمنفعة المتبادلة عليهما، ويسهم في تحفيز الابتكار وتعزيز تجربة العملاء.
وتبرز هذه الفوائد المتبادلة في أوجه عدّة، إذ تتميز المصارف عن بعضها بعضاً بالبنية التحتية التقنية التي يعتمدها كل مصرف منها، فضلاً عن تجربة وواجهة المستخدم التي يوفرها كل مصرف، وسهولة وصول العملاء إلى الخدمات التي يحتاجون إليها، والاستجابة وحل المشكلات التي يواجها العملاء. وفي هذا الخصوص، تلعب التقنية دوراً حاسماً في إضفاء سلاسة ويسر على هذه العمليات، ما يقود إلى تبسيط رحلة العميل المصرفية الشاملة، وهو ما يميّز كل مصرف عن غيره في تلبية المتطلبات المتزايدة لعملائه بشكل أفضل.
أما شركات التقنية المالية، فيمكنها الاستفادة من احتياطيات رأس المال الكبيرة لدى المصارف؛ لدعم منتجاتها الخاصة بمنح القروض والتمويل، وتوسيع قاعدة عملائها. ومن خلال الشراكة مع المصارف، تتوفر لهذه الشركات إمكانية الوصول إلى مجموعة كبيرة من الموارد، بما في ذلك هياكل الحوكمة المتينة وقاعدة عملاء أكبر. كما من شأن هذه الشراكة توفير الاستقرار والدعم اللازمين؛ لتمكين شركات التقنية المالية من مواجهة التحديات التنظيمية، وتجنب المخاطر المحتملة.
شراكات مثمرة
هناك نماذج لعلاقات تعاون مثمرة بين المصارف وشركات التقنية المالية أفضت إلى تطوير حلول تكنولوجية فعّالة أسهمت في تسريع عملية الابتكار. وتُعتبر المَحافظ الرقمية من الأمثلة البارزة على ذلك، إذ لا يحتاج مزودو المحافظ الرقمية إلى ترخيص مصرفي لتقديم منتجات الإقراض والتمويل أو إصدار البطاقات عادة. وبدلاً من ذلك، فإنهم غالباً ما يحصلون على رعايات رقم التعريف المصرفي (BIN) من المصارف التي يتعاونون معها، ما يمكّنهم من تقديم مجموعة من الخدمات، بما في ذلك المحفظة الرقمية، والقروض الصغيرة، وقروض الشركات الصغيرة والمتوسطة.
تسمح هذه الشراكة لمزودي المحافظ الرقمية بالاستفادة من البنية التحتية المصرفية والخبرة في الامتثال التنظيمي للمصارف من دون الحاجة إلى خوض عملية طويلة للحصول على التراخيص المصرفية الخاصة بهم. ومن خلال العمل المشترك، يمكن للمصارف وشركات التقنية المالية تطوير ونشر حلول المحافظ الرقمية بشكل سريع، ما يضمن توفير الخدمات المالية المبتكرة للعملاء في أقصر زمن ممكن.
مع كل الإيجابيات التي تحملها آفاق هذه الشراكة، تواجه بعض المصارف التقليدية تحديات في دمج التكنولوجيا المبتكرة في أنظمتها وعملياتها القائمة، ويكمن التحدي الأساسي في المواقف الوقائية التي تتخذها. إن التوازن المناسب بين الحذر والابتكار أمر ضروري لتحقيق النجاح، وتعد المصارف التي تحقق هذا التوازن بفعالية مرشحة للازدهار والنمو بشكل أكبر.
في المحصلة، يبقى الاستثمار في التكنولوجيا والتحسين المستمر للبنية التحتية التكنولوجية من العوامل الحاسمة للحفاظ على القدرة التنافسية للمصارف، وتعزيز قابليتها للتكيف مع متطلبات العصر وجاهزيتها للمستقبل.
خطوات باتجاه التحول الرقمي
لتحقيق عملية التحوّل الرقمي داخل المؤسسات المصرفية التقليدية، لا بدّ من إجراء تغييرات جذرية تضمن ازدهارها، خاصةً ضمن المشهد المالي المتغيّر بشكل متسارع. ويقف في طليعة الخطوات الضرورية التي يجب اتخاذها لتسهيل عملية اتخاذ القرار بشأن هذا التحوّل؛ تبني ثقافة التعلم والاطلاع على التقنيات الحديثة، إلى جانب التقليل من القواعد والعقوبات المغالية التي تحد من الابتكار والإبداع لدى الموظفين.
كما يتعين على هذه المصارف اعتماد ثقافة التجريب، والاستعداد لتحمل المخاطر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الابتكار غالباً ما يكون مبنياً على التجربة والخطأ. ومن شأن تأسيس مراكز للابتكار فتح الآفاق لاستكشاف حلول جديدة وتعزيز تعاونها مع شركات التقنية المالية.
ولضمان التركيز على الابتكار، قد يُؤخذ بعين الاعتبار أيضاً، تعيين أنواع جديدة من القادة التنفيذيين في مجالات الابتكار، أو التحول الرقمي، أو التغيير. وينبغي أن يُمنح هؤلاء القادة السلطة والموارد اللازمة لتشجيع التغيير داخل المصرف، ودعم الأفكار والمبادرات المبتكرة اللازمة من أجل دفع مسيرته قُدماً.
علاوة على ذلك، يمكن أن يساعد تنفيذ قاعدة 20-80 (بحيث يتم تخصيص غالبية الموارد لأنشطة الإيرادات الأساسية، وجزء صغير منها للإبداع) في تحقيق التوازن بين استقرار المؤسسة ونموها.
التوازن بين الابتكار والأمان
تشكل حماية بيانات العملاء وخصوصيتهم أولوية قصوى سواء للمصارف أو لشركات التقنية المالية. لذلك، فإن الاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا، هو أمر جوهري؛ ليس لتعزيز تجربة العملاء وحسب، بل أيضاً لحماية بياناتهم، فتحقيق التوازن بين الابتكار وحماية البيانات يضمن عدم تأثير تبنّي التقنيات المتطورة على أمن البيانات وسلامتها.
يضمن هذا التوازن لأي مؤسسة مالية التفوُّق والبقاء ضمن المنافسين في وقتنا الحالي، وتلبية احتياجات توقعات الأجيال الشابة التي تعطي الأولوية للسرعة والراحة، وتمتلك افتراضات مسبقة عالية يجب تحقيقها. فعلى سبيل المثال، تقدم بعض المصارف حالياً موافقات فورية على قروض وبطاقات افتراضية مدفوعة مقدماً، ما يوفر خدمات سلسة وفعّالة تلبي متطلبات الأجيال الشابة.
بالمقابل، ستجد المصارف التي تفشل في مواكبة التطورات التقنية نفسها في موقف لا تحسد عليه، ويرجح المراقبون أن تواجه المصارف التي لا تطور خدماتها التراجع لصالح منافساتها التي تتبن التقنية المالية، وبالأخص أن القدرة على تقديم خدمات مالية سريعة ومريحة لم تعد ترفاً، بل باتت ضرورة في عصرنا المُشبع بالتغيير.