الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني في مقابلة مع مارتن ييتس
في عالم اليوم التقني المتغير بسرعة، بات هناك الكثير من المسارات التقنية التي تتطلب نظرة أعمق وأكثر خبرة لها. بعض هذه المسارات ناشئة وجديدة كما الذكاء الاصطناعي التوليدي، والأخرى ناتجة عن التطور المتسارع مثل نمو التهديدات السيبرانية، فيما تظهر سواها كانعكاسات لقضايا لطالما كانت محورية مثل سيادة الدول ومدى امتدادها ووجودها في الفضاء الرقمي. لذا ولتسليط الضوء على هذه المسارات، كان لنا لقاء مع السيد مارتن ييتس، الرئيس التقني لشركة إنجازات، التابعة لمجموعة G42 في أبو ظبي، ليشاركنا رأيه وخبرته في هذه المواضيع.
ما هي المقاربة الأفضل لتبني الشركات للذكاء الاصطناعي برأيك؟
هذا هو “سؤال المليون دولار” الذي يشغل بال الجميع اليوم. فبينما لا أعتقد أن أي أحد في المجال التقني يرى الذكاء الاصطناعي كأمر جديد في المجال حقاً، فيمكن وصف ما حدث بكونه “اكتشاف البجع الأسود” [تشبيه يعبر عن أحداث لا يمكن التنبؤ بها تغير منظور البشرية لأمر بسرعة كبيرة]، وهنا أتحدث عن منتج ChatGPT الشهير الذي أصدرته شركة OpenAI. وقد كان هذا الحدث مؤثراً بشدة حتى أنه قد يتجاوز صعود منصات التواصل الاجتماعي من حيث التأثير.
منذ الآن، هناك الكثير من خدمات الذكاء الاصطناعي المضمنة مسبقاً في خدمات الشركات، ويتضمن ذلك البحث والتجارة الإلكترونية والحجوزات واقتراحات المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي ويوتيوب ومنصات البث. بل أنني لأراهن أن معظمنا يحتك بالخدمات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي أكثر من 20 مرة في اليوم. لذا من المهم معرفة أن الذكاء الاصطناعي قيد الاستخدام أصلاً، لكننا ننظر إلى ChatGPT وأمثاله بشكل مختلف لأننا نتعامل معها طوال الوقت وبشكل مباشر وظاهر بدلاً من أن تكون مخفية في الخلفية.
بالنتيجة، نصيحتي المبسطة للشركات بخصوص استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي الجديدة هي ما أفعله أصلاً مع عملائنا: عليكم بناء مجموعات عمل عبر الشركة أو المنظمة لفهم النماذج اللغوية الكبيرة وطريقة التعامل معها. وعادة ما نبدأ من باستكشاف الإمكانيات المحتملة ونفكر بشكل جماعي حول الطرق التي يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي والنماذج اللغوية الكبيرة أن تؤثر عبرها على نشاط الأعمال. ومن هنا سيكون عليك وضع أولويات الأعمال وفهم ما هي الفرص التي يفتحها استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر، هل هو وسيلة للحاق بالمنافسين وإدراكهم في السوق؟ أم أنه طريقة للتحوط من تقدم المنافسين وسبقهم؟
نحن نفعل ذلك الآن بشكل داخلي، فقد جمعنا الموظفين، وبدأنا بالابتكار معاً، ووجدنا العديد من الطرق التي يمكن أن نستخدم فيها روبوتات المحادثة والنماذج اللغوية الكبيرة ضمن أعمالنا. لذا أعيد للتأكيد، من المهم للجميع أن يفهموا أولوياتهم وما هو المسار المناسب لهم. فالعديد من الشركات اليوم، وبالأخص خارج المجال التقني، ليست جاهزة لعالم النماذج اللغوية الكبيرة، لذا ستحتاج للمساعدة لرسم الخطط والاستراتيجيات اللازمة لبناء نموذج تجريبي لاستخدام هذه التقنية ومن ثم تطبيقها على نطاق أوسع.
أخيراً يجب أن أنبه: من المهم للشركات ألا تشارك معلوماتها الداخلية من أي نوع مع الخدمات العامة والمتاحة للآخرين.
بالنظر لتطور المنطقة، هل يقترب التحول الرقمي في المنطقة من ذروته؟
الواقع هو أننا لسنا قريبين حتى من الإمكانيات الكاملة لعملية التحول الرقمي، وما نشاهده في المنطقة هنا هو تعدد في مستوى وآلية تطبيق التحول الرقمي مع مستويات مختلفة من النضج. بالنتيجة، هناك من استثمر مبكراً بالتقنية، وبات قادراً على البناء على استثماره الأولي والاستمرار بالتطور بعدها، لكن بالتأكيد بعيدون عن الوصول إلى ذروة التحول الرقمي، وكما أذكر، أظهر تقرير أخير [من شركة Research and Markets] أن مجال الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيصل إلى قيمة 8.4 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2026، وبالطبع ستكون الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في طليعة هذا النمو.
أرى أن نمو التقنية في المنطقة أمر منطقي تماماً، فهناك الكثير من قدرات الاستثمار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبالأخص في الإمارات والسعودية. وبينما يواجه العالم صعوبات وعقبات مثل ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم، أرى أن المنطقة مؤهلة أكثر لأن تتحرك وبشكل أسرع نحو درجات أعلى من التحول الرقمي وتنفيذ مشاريع ستقوي بشكل حقيقي من قوة الاقتصاد. وفي حال نظرنا إلى البيانات على أرض الواقع، فالتحول الرقمي عملية جارية منذ عقود، وهو لا يظهر أي علامات على التباطؤ، بل أنه يتسارع بشكل مستمر.
من المهم فهم أن التحول الرقمي ليس مجرد وجهة نهائية أو غاية تسعى الشركات للوصول إليها والتوقف. لم يحدث هذا أبداً في أي مرحلة من حياتي، بل لطالما كان التحول الرقمي عملية مستمرة مع العديد من التحولات المرحلية طوال الطريق. ومن خبرتي، كان من الواضح أن التصرف الوحيد السليم عند إنجاز مرحلة ما من التحول الرقمي لم يكن التوقف والانتظار، بل التخطيط للمرحلة التالية ووضع أهداف جديدة وأعلى بالاستفادة من التقنيات الجديدة. لذا سواء كان الأمر للمنطقة هنا أو لأي منطقة أخرى في العالم، التحول الرقمي لن يتوقف أبداً، بل سيستمر، ويتطور، ويتسارع حتى.
نتيجة التحول الرقمي، نمى سطح الهجوم لدى العديد من الشركات، فكيف تحمي نفسها من الهجمات؟
مع كون الجميع يريد السير نحو التحول الرقمي، ولا شك بوجود فوائد عديدة لذلك، لكن وكلما زدنا الرقمنة سنزيد مع ذلك عدد الأجهزة لدينا. وإن فكرت بالأمر، لطالما كانت الأنظمة القديمة حبيسة مراكز بيانات الشركات، لكن ذلك لم يعد حقيقياً اليوم، بل باتت الأنظمة موزعة بشدة ويمكن الوصول إليها من العديد من الأجهزة الطرفية التي قد تكون كاميرا، أو بوابة، أو نظام إدارة مبانِ، أو نظام تشغيل للمصاعد. من حيث المبدأ، تعد جميع هذه الأجهزة حواسيب تعمل على الحافة، وهي موجودة في كل مكان، مما يعني أن مساحة سطح الهجوم شاسعة الآن وتتضاعف بسرعة حتى.
بشكل مثير للاهتمام، كانت معظم الهجمات السيبرانية الكبيرة والناجحة مؤخراً قد بدأت من الأجهزة الطرفية بدلاً من الهجوم المباشر على مراكز البيانات. لكن كيف تتعامل مع ذلك؟ الجواب هو بناء خطة أمان شاملة ومتكاملة تأخذ جميع نقاط الدخول بعين الاعتبار بدلاً من التعامل مع إدارة الملفات أو الحماية من التطفل المباشر فقط كما الأنظمة التقليدية. وبالطبع سيكون عليك مراجعة هذه الخطط كل يوم، إذ سيكون من الضروري جعل الإحاطة المعرفية بالتهديدات جزءاً محورياً من عملياتك. وأخيراً، عليك العمل مع الشركاء المحليين والعالميين للتعامل مع التهديدات.
بسبب تنوع وحجم مجال الأمن السيبراني، لم يعد من الممكن لأي شركة التعامل مع الاختراقات وحماية نفسها بشكل مستقل، وبالأخص في حالة الأهداف ذات القيمة العالية والتي يرى المخترقون احتمالات عائدات كبرى من تجاوز حمايتها. وتتضمن بعض الخيارات الممكنة لتحسين الحماية بناء مجتمع حماية أكبر والتركيز على تنميته، بالإضافة للتعاون مع الشركات الأخرى ضمن المجال، وهذا ما رأيناه من تكتل المصارف معاً لحماية بعضها البعض. وبالطبع هناك الدور الحكومي الذي يمكن تجسيده بالنظر إلى دور مجلس الأمن السيبراني في الإمارات العربية المتحدة، الذي اتخذ النظرة الشاملة للحماية بالنظر إلى أن زيادة التهديدات الإلكترونية، تماماً كما التحول الرقمي، لن تتوقف.
هل ترى أن لتوطين مراكز البيانات والسيادة الوطنية على البيانات أهمية استراتيجية؟
لا شك بأن العالم يتحول إلى مكان أكثر خطورة مع المزيد من مصادر الأخطار والتهديدات والاضطرابات، وفي هذه الظروف يعد الأمن الوطني أساسياً لجميع البلدان. لذا يعد الاعتماد الكامل على خدمات السحابة العامة والخوادم الكبيرة العالمية من قبل الشركات والحكومات مصدر خطر محتمل مستمر. والآن نشهد تزايداً في الرغبة العالمية لخيارات أكثر أماناً واستقراراً في وسط التقلبات والتوترات الجيوسياسية العالمية. كما بات هناك اهتمام أكبر بخصوصية المواطنين والسكان حول العالم، وفرضت العديد من الدول، ومنها الإمارات العربية المتحدة، إبقاء بيانات ساكنيها ضمن حدودها للحفاظ على خصوصيتهم وعلى الأمن الوطني.
بالطبع لا تعني السيادة الوطنية على البيانات عدم استخدام السحابة العامة أبداً، لكنها تعني الحاجة لمقاربة عملانية تضمن إبقاء المعلومات والبيانات الأهم للسكان ضمن البلاد. الواقع أننا لا يمكن أن نتيقن مما يمكن أن يحدث سواء في المنطقة أو العالم، إذ هناك الكثير من التوترات العالمية وفي العديد من الأماكن، ويمكن أن تنتج هذه التوترات توقف بعض الخدمات أو وصول البيانات إلى جهات أخرى، وهنا تظهر أهمية التماسك الداخلي من حيث سياسات حماية البيانات أو البنية التحتية للخدمات ومراكز البيانات.
بالمحصلة، لا أعتقد أن عالم الخدمات السحابية العامة والشركات الكبيرة للحوسبة السحابية قريب من النهاية، بل سيستمر بالعمل دون شك. لكن ومن الجهة الأخرى، هناك تحول مهم وانتباه متزايد لموضوع السيادة الرقمية كجزء أساسي من قدرة أي بلاد على الحفاظ على سيادتها.